بقلم أيوب بلامين، محامٍ.
2 شتنبر 2025
تمثل مسألة التنفيذ الجبري للأحكام القضائية الصادرة ضد الدولة والأشخاص المعنوية العامة واحدة من أكثر الإشكالات حساسيةً وإثارةً للجدل في القانون المغربي. فبالرغم من أن الدولة، بصفتها شخصًا معنويًا، ملزمة، كأي متقاضٍ آخر، بالامتثال للأحكام القضائية النهائية الصادرة ضدها، إلا أن خصوصية مهامها وطبيعة الموارد المالية التي تعبئها تبرر إخضاعها لنظام قانوني خاص. تقوم هذه الخصوصية على فكرة أولوية الحفاظ على المصلحة العامة واستمرارية المرفق العام على المصالح الفردية للدائنين. غير أن هذه الحصانة من التنفيذ، عندما تكون مطلقة، تثير تساؤلات جوهرية.
فهرس هذا المقال:
I. عدم قابلية الأموال العمومية للحجز بين متطلبات التوازن المالي وغموض مشروع قانون المسطرة المدنية الجديد.
II. الإشكاليات القانونية والاجتهادات القضائية: التفاعل بين مشروع قانون المسطرة المدنية والمادة 9 من قانون المالية لسنة 2020 (هرمية القواعد القانونية والإلغاء الضمني).
يشكل تنفيذ الأحكام القضائية أحد الركائز الأساسية لدولة القانون. فالحكم، مهما كان سديدًا من الناحية القانونية، يفقد كل فعاليته إن بقي حبرًا على ورق. وفي هذا السياق تحديدًا، تحتل مسألة الحصانة من التنفيذ للأشخاص العامة موقعًا مركزيًا في القانون المغربي، حيث تضع في كفة ميزان حماية المال العام واستمرارية خدمات الدولة، وفي الكفة الأخرى ضمان حقوق الدائنين.
وقد احتدّ هذا النقاش منذ إقرار الفصل التاسع من قانون المالية لسنة 2020، الذي نص على حصانة أموال الدولة والجماعات الترابية من الحجز التنفيذي. وقد تعرض هذا النص لانتقادات حادة، سواء بسبب طبيعته كـ"راكب تشريعي" ضمن قانون مالي لا يُفترض أن يتدخل في مجال المسطرة، أو بسبب مساسه بمبدأ المساواة بين المتقاضين. ورغم ذلك، لم يكن النص مجردًا من كل الضمانات، إذ تضمن آلية للبرمجة المالية تسمح بتنفيذ الأحكام، ولو بعد تأخير.
وفي السياق ذاته، جاء مشروع مدونة المسطرة المدنية (قانون 02.23) ليُضفي طابعًا رسميًا على هذه الحصانة في الفصلين 502 و572، ضمن أحكام تنفيذ الأحكام ضد الدولة. غير أن هذا المشروع عُرض على المحكمة الدستورية، التي أصدرت في 4 أغسطس 2025 قرارًا يقضي بعدم دستورية عدة مواد منه، نظراً لما تشكله من خرق لاستقلال السلطات، والأمن القانوني، والحقوق الإجرائية. وقد صرحت المحكمة بعدم مطابقة المشروع برمته للدستور، دون أن تفحص دستورية جميع مواده، بما في ذلك تلك المتعلقة بالحصانة التنفيذية، مما يخلق فراغًا ويترك مسألة العلاقة بين الفصل 9 من قانون المالية ومشروع مدونة المسطرة المدنية دون حسم.
ومن هنا، يطرح سؤال مركزي: في غياب رقابة دستورية صريحة على المادتين 502 و572 من مشروع المدونة، إلى أي مدى يمكن فهم أو تفسير التعايش (أو التضارب) بين المادة 9 من قانون المالية ومشروع المدونة؟ وما هي الآثار القانونية المترتبة على ذلك بالنسبة للدائنين؟
يروم هذا المقال الإجابة عن هذه الإشكالية من خلال تحليل، أولاً، مسألة عدم قابلية الأموال العامة للحجز بين القانون المالي والمشروع الإجرائي (أولاً)، ثم تناول الرهانات القانونية والقضائية لإرساء هذه الحصانة، وآفاق توضيح الإطار القانوني (ثانيًا).
أولاً: عدم قابلية الأموال العامة للحجز بين مقتضيات الميزانية وغموض مشروع مدونة المسطرة المدنية
أ. المادة 9 من قانون المالية لسنة 2020: نشأة حصانة مثيرة للجدل
أدرج المشرّع المالي سنة 2019، من خلال المادة 9 من قانون المالية لسنة 2020، مبدأ عدم قابلية أموال الدولة والجماعات الترابية وهيآتها للحجز. وقد تم اعتماد هذا النص بدعوى حماية استمرارية المرافق العامة والتوازنات المالية، إلا أنه أثار فورًا موجة اعتراض قوية من قبل المحامين والمهنيين القانونيين.
هؤلاء اعتبروا أن هذه المادة تنتهك مبدأً أساسياً مفاده أن "الأحكام القضائية النهائية تُلزم الجميع"، كما أنها تمس بمبدأ المساواة أمام القانون والقضاء.
علاوة على ذلك، وُجّهت انتقادات للمادة 9 باعتبارها "مقتحمة على القانون المالي" (cavalier budgétaire)، أي أنها لا تندرج ضمن المجال الطبيعي لقوانين المالية، بل تدخل في نطاق قانون الإجراءات، وبالتالي يُفترض ألا تُدرج في قانون ميزانية.
ورغم أن المشرّع أضاف، في اللحظات الأخيرة، آلية تنظيمية تتمثل في مهلة أداء تمتد لأربع سنوات تُمنح للدولة لتنفيذ الأحكام، فإن الإجراء ظل محل جدل واسع.
ولم يُحسم في مدى دستورية هذه المادة، إذ لم يُعرض أي طعن بشأنها أمام المحكمة الدستورية قبل دخولها حيز التنفيذ.
وعليه، فإن سياق إقرار هذه الحصانة يكشف منذ البداية عن تنازع بين سلطة الدولة وحقوق المتقاضين، ويثير تساؤلات جوهرية حول الأساس الدستوري لمثل هذه الحماية الممنوحة للدولة بصفتها مدينة.
ب. إقرار الحصانة في مشروع المدونة: مبدأ بلا ضمانات
تم إدراج حصانة الدولة بشكل صريح ضمن مشروع قانون المسطرة المدنية (القانون رقم 02.23)، حيث تم تكريس عدم قابلية أموال الدولة والهيئات العمومية للحجز في سياق تنفيذ الأحكام القضائية، وذلك في المادتين 502 و572 من المشروع.
غير أن هذه الحصانة، وعلى خلاف ما جاء في المادة 9 من قانون المالية لسنة 2020، لا تتضمن أي ضمانات ملموسة لفائدة الدائنين المتقاضين ضد الدولة. فلا يوجد:
أجل قانوني لأمر الأداء،
ولا إجراءات للتعويض في حال عدم التنفيذ،
ولا آليات ضغط مثل الغرامة التهديدية (astreinte judiciaire)،
ولا حتى إمكانية الحجز على أموال الدولة بعد انقضاء أجل معين.
وعليه، فإن مشروع قانون المسطرة المدنية يُقنِّن حصانة مطلقة، دون توازن، تمنح امتيازاً واسعاً للدولة المدينة، مع تجاهل تام للحق الأساسي للمواطنين في تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة لفائدتهم.
وتتجلى خطورة هذا الإغفال بشكل أكبر إذا ما علمنا أن الحق في تنفيذ الأحكام يُعد، بحسب الاجتهاد القضائي الأوروبي، جزءاً لا يتجزأ من الحق في محاكمة عادلة.
ومن هذا المنطلق، يمكن طرح تساؤلات جدية حول مدى دستورية المادتين 502 و572، خاصة بالنظر إلى ما ورد في ديباجة الدستور المغربي من تأكيد على مبدأ دولة القانون، وكذا الفصول التي تضمن حجية الأحكام القضائية وقوة تنفيذها.
إن غياب أي آلية لحماية حقوق الدائنين قد يؤدي عملياً إلى إنكار العدالة إذا لم تبادر الدولة طوعاً إلى تنفيذ الأحكام. كما أن الاختيار التشريعي الذي تبنّاه مشروع قانون المسطرة المدنية يبدو منفصلاً تماماً عن منطق التوازن الذي كانت تسعى إليه المادة 9 من قانون المالية لسنة 2020، مما يُنذر بصعوبات تطبيقية جدية في المستقبل.
ج. صمت المحكمة الدستورية (قرار 4 أغسطس 2025): فراغ قانوني مقلق
قامت المحكمة الدستورية، بناءً على إحالة قدمت إليها، بالنظر في مدى مطابقة مشروع قانون المسطرة المدنية للدستور. وقد قضت برفض عدد كبير من مواده – قرابة 35 مادة – واعتبرت أنها تمس بمبادئ جوهرية مثل:
الأمن القانوني،
حماية حقوق الدفاع،
ومبدأ فصل السلطات.
غير أن المثير للانتباه هو أن المادتين المتعلقتين بالحصانة من التنفيذ (502 و572) لم تحظيا بأي تعليق أو تقييم من طرف المحكمة. فلم يتم التصريح صراحة بمطابقتهما للدستور، كما لم يتم إلغاؤهما، مما خلق غموضاً قانونياً بشأن وضعيتهما الدستورية.
ويُمكن تصور احتمالين:
إما أن هاتين المادتين لم تكونا مشمولتين ضمن الطعون المقدمة إلى المحكمة، وبالتالي لم يتم فحصهما من الأساس؛
أو أن المحكمة لم تجد فيهما ما يُثير إشكاليات دستورية واضحة في إطار المراقبة القبلية للقوانين.
وفي كلتا الحالتين، فإن النتيجة واحدة: وضع غير مؤكد. فمشروع قانون المسطرة المدنية، بما فيه المواد التي لم تخضع للمراقبة الدستورية، قد يُعتمد في صيغته المعدلة، مع الاحتفاظ بالحصانة من التنفيذ دون مساس، دون أن يكون قد تم الحسم في مطابقتها للدستور، ولا سيما في ضوء الفصول 6، 126 و163 من الدستور.
هذا الفراغ القانوني المقلق يفتح الباب أمام تضارب محتمل بين القواعد القانونية، خاصة مع استمرار المادة 9 من قانون المالية لسنة 2020 في سريانها رسمياً.
ومن جهة أخرى، فإن هذا الوضع يرجئ البت في مسألة جوهرية – وهي التوفيق بين امتيازات الدولة وحقوق المواطنين – إلى مراقبة لاحقة بطريق الدفع (الاستثناء)، أي من خلال إثارة دفع بعدم الدستورية (Question Prioritaire de Constitutionnalité) بعد دخول القانون حيز التنفيذ.
وبالتالي، فإن عدم حسم المحكمة الدستورية في هذا النقطة الأساسية يُبقي الفقهاء والمهنيين القانونيين في حالة من الشك، ويُهدد استقرار الإطار القانوني الجديد المتعلق بتنفيذ الأحكام القضائية ضد الدولة.
ثانيًا: الرهانات القانونية والاجتهادية: تفاعل المادة 9 من قانون المالية ومشروع المدونة (من حيث تدرج القواعد القانونية والإلغاء الضمني)
أ. تضارب القوانين وتدرج القواعد القانونية: هل يتفوق مشروع المدونة على المادة 9؟
سيُثير دخول مشروع قانون المسطرة المدنية (CPC) في صيغته المعدلة حيز التنفيذ إشكالية حتمية تتعلق بكيفية التوفيق بينه وبين المادة 9 من قانون المالية لسنة 2020. فرغم إدراج هذه الأخيرة في قانون مالي، فإنها تُعد قانونًا عاديًا ذو طابع دائم، نظراً لأنها تتعلق بتنفيذ الأحكام القضائية، ولم يتم نسخها أو إلغاؤها صراحة حتى اليوم.
وفقاً للنظرية الكلاسيكية في تعاقب القوانين، فإنه يمكن لقانون لاحق، من نفس المرتبة القانونية، أن يُلغي ضمنياً (تلقائياً) قانوناً سابقاً يتعارض معه، وهذا ما يُعرف بقاعدة: القانون اللاحق ينسخ السابق (lex posterior derogat priori).
وبما أن مشروع قانون المسطرة المدنية الجديد، بعد اعتماده، سيُشكّل المرجع العام في الإجراءات القضائية، فربما يُفهم منه أنه يُعوّض النظام المنصوص عليه في المادة 9. غير أن هذا التغيير قد يُؤدي إلى تراجع في حقوق الدائنين مقارنة بما تم إقراره سنة 2020، إذا لم يتضمن المشروع الجديد الضمانات التي وفرتها المادة 9 (مثل مهلة الأربع سنوات لتنفيذ الحكم).
وهنا تبرز التساؤلات:
هل سيُطبق القاضي المغربي القانون الأحدث (قانون المسطرة المدنية) على حساب المادة 9 من قانون المالية؟
أم سيُحاول التوفيق بين النصين من خلال قراءة منسجمة تحفظ مضمون كليهما؟
هذه الإشكالية تُعيدنا إلى مفهوم "الإلغاء الضمني" وأهمية الحفاظ على انسجام المنظومة القانونية. وفي غياب توضيح تشريعي صريح، سيُناط بالاجتهاد القضائي أن يحسم في مسألة أي من النصين له الأسبقية.
وإن لم يُحسم هذا التعارض، فقد يؤدي إلى حالة من عدم اليقين القانوني، بحيث يصبح المتقاضون في حيرة: هل ما زال بإمكانهم الاستفادة من مهلة الأربع سنوات المنصوص عليها في المادة 9؟ أم أن هذه الضمانة أصبحت متجاوزة؟
ومن الجدير بالتذكير أن القانون التنظيمي لقوانين المالية (LOF) يُحدد بدقة نطاق المواضيع التي يجوز تناولها في قوانين المالية.
وقد أثار بعض الفقهاء أن المادة 9 من قانون المالية لسنة 2020 قد تجاوزت هذا النطاق، واعتبروها مخالفة للقانون التنظيمي للمالية، وبالتالي للدستور. وهذا يُعني أن المادة 9 كانت تعاني من هشاشة دستورية منذ ولادتها، مما يزيد الوضع تعقيداً:
هل سيقوم قانون المسطرة المدنية (بوصفه قانوناً خاصاً بالإجراءات القضائية) بـ إلغاء مادةٍ تم الطعن في مشروعيتها الدستورية منذ البداية؟
كل هذه الضبابية القانونية تدفع نحو الحاجة الملحة إلى تدخل تشريعي واضح لتفادي فتح ما يُشبه "صندوق باندورا" القانوني، حيث قد تتداخل النصوص وتتعارض التأويلات، فيُهدد ذلك استقرار النظام القانوني برمّته.
ب. نظرية الإلغاء الضمني ومبدأ التخصص: هل يتم إلغاء المادة 9 ضمنيًا؟
من الناحية القانونية، هناك مبدآن يتعارضان أو يتكاملان في هذا السياق:
قاعدة القانون اللاحق يُلغِي السابق (lex posterior),
ومبدأ أن القانون الخاص يَسْبِق القانون العام (lex specialis derogat legi generali).
فـالمادة 9 من قانون المالية لسنة 2020، رغم أنها أقدم زمنياً، قد تُعتَبر قانوناً خاصاً لا يُطبق إلا على تنفيذ الأحكام ضد الدولة، في حين أن مشروع قانون المسطرة المدنية (CPC) هو قانون عام للإجراءات المدنية.
وعليه، إذا اعتُمد معيار الخصوصية، فإن المادة 9 تحتفظ بقوتها القانونية، باعتبارها تنظّم نظاماً خاصاً في تنفيذ الأحكام ضد الدولة.
أما إذا تم التركيز على كون مشروع قانون المسطرة المدنية هو النص الأحدث، فإن جميع النصوص السابقة التي تتعارض معه تُعدّ ملغاة ضمنياً، بما في ذلك مهلة الأربع سنوات المنصوص عليها في المادة 9 من قانون المالية لسنة 2020.
وتنص نظرية الإلغاء الضمني على ضرورة وجود تناقض واضح بين النصين. وفي هذه الحالة، فإن هناك فعلاً تناقضاً بين:
المادة 9 التي تُلزِم الدولة بأداء المبالغ المحكوم بها داخل أجل معين،
وقانون المسطرة المدنية الذي لا ينص على أي مهلة، مما قد يؤدي إلى إرساء حصانة مطلقة وغير محددة زمنياً.
هذا التباين يَصعب التوفيق بينه، ومن المرجّح أنه في غياب تدخل تشريعي صريح، فإن القاعدة الجديدة التي أقرها قانون المسطرة المدنية ستُلغِي عملياً السابقة، مما يُفضي إلى فراغ قانوني في ما يتعلق بآجال أداء الدولة للديون المحكوم بها ضدها.
قد يجادل البعض بأن المادة 9، باعتبارها واردة ضمن قانون مالية، كان يجب أن تكون مؤقتة وذات طابع سنوي فقط. لكن بالنظر إلى موضوعها الجوهري (تنفيذ الأحكام ضد الدولة)، فقد تم تطبيقها بشكل دائم منذ 2020. وبالتالي، فإن استبدالها بقانون المسطرة المدنية دون أي نص انتقالي قد يُحدث قطيعة في النظام القانوني المعمول به، ما يُعزز ضرورة تدخل تشريعي انتقالي أو توضيحي.
إن التحليل المشترك بين تراتبية القواعد القانونية ونظرية الإلغاء الضمني يؤدي إلى الخشية من زوال ضمني للإطار الإجرائي الذي أقرته المادة 9 من قانون المالية لسنة 2020، عند اعتماد مشروع قانون المسطرة المدنية، ما لم يتم إدراج تلك الضمانات صراحة ضمن النص الجديد.
ج. أولى ردود الفعل القضائية: تحايلات وتساؤلات
في مواجهة الحصانة من الحجز التي أُقرت سنة 2020، بدأت الاجتهادات القضائية المغربية تُبدي ردود فعل، أحيانًا بأساليب مبتكرة. من أبرز الأمثلة على ذلك حكم صادر عن المحكمة الإدارية بمكناس في يناير 2020، أي بعد وقت قصير من دخول المادة 9 حيز التنفيذ، حيث أذن قاضي التثبيت بالحجز بحجز أموال مؤسسة عمومية (الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين)، معتبراً أن هذه المؤسسة لا تدخل ضمن نطاق تطبيق المادة 9، التي تقتصر على الدولة والجماعات الترابية وهيآتها. وقد اعتُبر هذا الحكم محاولة لتقييد نطاق الحصانة، باستبعاد بعض الكيانات العمومية من دائرة الحماية، من أجل الحفاظ على حق الدائن في تحصيل دينه. ويُظهر هذا القرار الحرج الذي يشعر به القضاة عند مواجهتهم لحالات ظلم فاضح.
ومع ذلك، فإن مدى تأثير هذا النوع من القرارات يظل محدودًا ويتوقف على خصوصية كل حالة.
في المقابل، قد تصدر أحكام أخرى تُطبق المادة 9 من قانون المالية لسنة 2020 بشكل صارم، وترفض أي إجراء للتنفيذ ضد الدولة طالما أن أجل الأربع سنوات لم ينقضِ بعد. وبالتالي، نلاحظ حاليًا اجتهادًا قضائيًا متباينًا وحذرًا.
ومع اعتماد مدونة المسطرة المدنية الجديدة، سيُطرح أمام القضاة تساؤلات جديدة: هل ستُلغى المادة 9 ضمنيًا؟ وهل لا يزال بإمكان دائني الدولة التمسك بالأجل المنصوص عليه في تلك المادة أو المطالبة به بناءً على مبدأ عام للمساواة؟
في ظل غياب توضيح تشريعي، سيضطر الاجتهاد القضائي، الإداري والعادي، إلى الحسم في مناقشات معقدة:
هل يمكن للقاضي، في ظل غياب قابلية الحجز، أن يأمر بغرامات تهديدية أو جزاءات مالية ضد الدولة المتأخرة في التنفيذ، على غرار ما هو معمول به في فرنسا؟
في الوقت الراهن، لا ينص القانون المغربي صراحة على مثل هذه الغرامات، وإن كانت بعض المحاكم الإدارية قد طبقتها. كما أنه من غير المعروف بعد كيف ستفصل محكمة النقض في حال وقع تعارض بين المدونة الجديدة والمادة 9 من قانون المالية لسنة 2020.
وأخيرًا، تجدر الإشارة إلى أن المحكمة الدستورية لم يعد من الممكن اللجوء إليها مسبقًا في هذا السياق، لكن سيكون من الممكن مستقبلاً تقديم دفع بعدم الدستورية (المادة 133 من الدستور) بمجرد صدور المدونة وقانونها التنظيمي المتعلق بمسألة الدفع بعدم الدستورية (QPC).
ومن الممكن أن تنظر الاجتهادات الدستورية الناشئة في هذه المسألة، إذا ما دفع أحد المتقاضين بأن الحصانة من التنفيذ تمس بحقه في اللجوء إلى قضاء فعال.
باختصار، يُتوقّع أن يكون المجال القضائي في هذا الشأن غنيًا بالنقاش، بين محاولات التفاف مؤقتة، وتفسيرات متباينة، وتطور محتمل في الاجتهاد تحت مظلة المبادئ الدستورية.
الخاتمة
ختامًا، فإن حصانة الدولة من التنفيذ في المغرب تقف اليوم على مفترق طرق.
من جهة، يُعد مشروع مدونة المسطرة المدنية، بعد الرقابة الجزئية التي مارستها المحكمة الدستورية، فرصة لإعادة النظر بعمق في هذا النظام من خلال إدماج ضمانات إجرائية فعالة للتنفيذ، لا تقل عن تلك التي نصت عليها المادة 9 من قانون المالية لسنة 2020، وتمكين التنفيذ ضد الدولة من الخضوع لرقابة قضائية من طرف قاضٍ مختص (قاضي التنفيذ)، فضلًا عن توضيح الإطار القانوني للتنفيذ بما يعزز الأمن القانوني.
من جهة أخرى، فإن صمت المحكمة الدستورية بخصوص المواد المتعلقة بحصانة الدولة من التنفيذ يُبقي على حالة من الغموض، بات من الضروري إزالتها من خلال تدخل تشريعي واضح وبعيد النظر.
التحدي القانوني يكمن في تأكيد سلطة الدولة وحماية الأموال العامة، دون المساس بحقوق المواطنين الأساسية في تنفيذ الأحكام القضائية.
ويجب إظهار أن حصانة التنفيذ، متى كانت مؤطرة بضوابط صارمة، لا تعني إفلات الدولة من المسؤولية، بل تستوجب منها التزامًا أكبر باحترام الأحكام القضائية وتنفيذها في ظروف عادلة.
إن تدرج القواعد القانونية يفرض احترام الدستور، الذي ينص على المساواة أمام العدالة وعلى قوة الأحكام القضائية، ما يعني ضرورة عدم تجريد الأحكام الصادرة ضد الدولة من فاعليتها.
وبالاستفادة من تجارب مقارنة، وعلى رأسها النموذج الفرنسي، يمتلك المغرب نماذج يمكنه محاكاتها لتحقيق توازن عادل بين سلطة الدولة وحقوق الدائنين، من خلال آليات غير مباشرة فعالة للإكراه على التنفيذ.
وأخيرًا، يجب أن تنسجم أي إصلاحات مستقبلية في هذا المجال مع النظرية العامة لمسؤولية الدولة ومبدأ الثقة المشروعة للمواطنين في عدالة دولتهم.
إن حل إشكالية حصانة التنفيذ لا يعني سوى إعادة تأكيد العقد الثابت بين الحاكم والمحكوم: فدولة الحق والقانون لا يمكن أن تقبل بأن تقف قوة الأحكام القضائية عند أبواب الخزينة العامة.
ويُلقى على عاتق المشرّع، المستنير بالرأي القانوني والمقارنة القانونية، أن يملأ هذا الفراغ التشريعي، بوضع إطار قانوني صارم، يحترم الدستور، ويضمن ألا تظل أحكام المواطنين ضد الدولة انتصارات رمزية فقط.